رفـيـق سـلاح
( I )
عندما تضع كفها الدافيء أبدًا فوق ظهر يدي , تضغط ذلك الزر الخفي بداخلي لإيقاف الزمن و إخفاء المكان , حتى لا أشعر إلا بأقل القليل مما يحيط بي . بقايا حموضة عصير البرتقال في فمي , دفء شمس أغسطس يحيط ظهري بينما ظل الشمسية الملونة يبرد صدري فتمتزج الحرارة و البرودة في تصالح مريح بينهما . رائحة عطر , لا أعرف إن كان لها أم لغيرها لكن المهم أنه هنا . و الأهم , كفها , ذلك الدفء الذي يمر عبر ظهر يدي , يسير مع كرات دمي حتى يبلغ القلب فيحيطه و يهديء من روعه , يبطيء نبضاته حتى تصبح متماشية مع ريتم تَرَدُد كلمة :" أحبك .. أحبك ."
لم أكن من محبي المقاهي , لا في وطني و لا هنا في باريس حيث أعيش حاليًا . ماذا إذن جعلني أدمن الجلوس في " كافيه جورج سانك " إلا الحب ؟ فقط هو يجعلك ترتاد أماكن لم تكن تحبها . تذهب إليها أولا لمقابلة من تحب , ثم تحبها لذاتها , تجد قدماك تقودانك إليها تلقائيًا إن كنت من هواة التسكع مثلي .
تصغرني بسنوات ليست بالقليلة , لا يهم .هي خفيفة نشيطة متحركة و أنا هاديء رصين نوعًا .. لا يهم ... طالما توجد تلك النبضة المشتركة عندما تمسك يدي .
تضغط كفي بخفة , أعرف معنى هذا و أعرف أنها ستميل قليلا للأمام و هي تبتسم قائلة ..
" ماذا بك ؟ "
ماذا بك .. بين الباء و الكاف سعة لكل هم و سعادة و حزن و فرح , أحلام سعيدة , كوابيس ...ألخ .. بينهما مساحة تكفي قصة حياة .
كقصتي ...
( II )
لا يهم أين , و لا متى حدث ما حدث , لا تهم لماذا , فالمحصلة واحدة .
أكثر من خمسة عشر عامًا مرت على ما جرى لي .
كنت شابًا في العشرينات آنذاك , و كانت الحرب الأهلية تمزق وطني . عاد بنو بلدي آلاف السنين للوراء , عادوا أولئك الهمج البدائيين المتصارعين على لحم حيوان , حفنة ثمار أو جسد إمرأة . عادوا لكنهم عادوا بمسميات و آلات مختلفة . الكاتيوشا و الكلايشنكوف حلت محل الهراوات و الرماح . إستبدلوا جلود الحيوانات بالثياب المموهة , و حل زعماء الفرق و الشيع و الكتائب محل الأصنام و الطواطم و الأوثان .
القتل للقتل , لا تحدثني من فضلك عن حقوق كل فصيل و مبادئه المعارضة للآخر . لو كنا مهاجرين , لو كنا أبناء رُحَل متنقلين لكان من الممكن أن أتفهم الأمر , لكننا لنا جذور تضرب في عمق تاريخ هذه الأرض , فماذا إختلف ؟ يمكنني أن أتفهم موقف من يقاتل طلبًا لحق فئته , الجائرة عليه فئة أخرى , لكن ماذا عن من يقاتل الفئة الأخرى , فقط , لمجرد أنها أخرى . يريد أن تخلو الأرض لفصيله , بأي حق ؟ أقصى درجات الوقاحة أن يكون مطلبك من الآخر أن يموت لتعيش أنت .
قلة وقفت على الحياد , و أنا منهم . كنت مسالمًا محايدًا آمنًا أعيش خارج دائرة الصراع . كنت إبنًا لأم حنون , زوجًا لفتاة طيبة , أبًا لطفلة جميلة . يومي روتيني عادي , من البيت للعمل , و بالعكس ..
إشتباكات , ثم هدنة , فإشتباكات , و هدنة , فمفاوضات , ثم إتفاق , فخروقات , ثم هدنة . فتوقيعات , و تصفيقات و أغانٍ وطنية , ثم خرق جديد , و مفاوضات جديدة , ثم أخيرًا إتفاق نهائي .
لم يكن يهمني كل هذا .. لم أكن حتى أتابع . كل ما أريد هو أهلي و بيتي و قوت يومي .
كنت أسير بجوار الحائط كما يقولون في الأمثال , و فجأة .. هدموا الحائط !
( III )
" ماذا بك ؟" قالت مجددًا بقلق
إنتزعتُ ضحكة و قلت :" شقيقك تأخر " ابتسمت " هذا ما أذهب تركيزك عني ؟"
شكرت في سري مجموعة الأطفال اللاهية قربنا بصخب إذ جذبت إنتباهها عن ملاحظة إرتباك ملامحي . نعم يا عزيزتي , هذا ما أذهب تركيزي عنكِ . أتدرين لماذا ؟
( IV )
- " الحمد لله , إصاباتك غير خطرة , جسدك قوي و ستتعافى سريعًا ."
-" ما الذي جرى ؟ أين أمي ؟ "
- " سنضعك تحت الملاحظة لمدة 24 ساعة ثم يمكنك العودة لمنزلك ."
- " لا أفهم شيئًا .. ماذا حدث ؟ إبنتي هل هي بخير ؟ "
- " كان من المفترض أن نبقيك تحت الملاحظة لوقت أطول , لكن .. أنت تفهم .. ظروف الحرب و الأولوية للحالات الخطرة ."
- "زوجتي كانت معي .. أين ذهبَت ؟ "
-" أحد رجال الأمن يرغب في أخذ أقوالك .. أعتقد أن حالتك تسمح بهذا ."
-"........................."
-" سيدي , لا نريد أن نثقل عليك خاصة مع الظرف الصعب الذي تمر به , تقبل تعازينا ."
-" ؟!؟!؟!؟!؟!؟! "
- " فقط نرغب في تعاونك معنا لمعرفة المسئول عن هذا العمل الإجرامي البشع ... قل لنا من فضلك , متى تحديدًا وقع ذلك الإنفجار ؟"
( V )
- " معذرة , حاولت أن لا أتأخر لكن .."
- " لا بأس , إجلس " قالتها و هي تضع قبلة على وجنته اليمنى
- "هذا (عصام ), من حدثتك عنه من قبل .. (عصام ).. هذا ( فادي ) أخي ."
جلس بهدوء و إبتسامة ودود , تصفحت وجهه , رجل في مثل عمري , أكبر أو أصغر بأعوام قليلة . ملامحه عادية , على شيء من الوسامة . بحثت عن نظرات قاسية و قسمات صارمة تخيلتها له قبل لقاءه , فلم أجد . ملامحه و نظراته تحمل ذات الهدوء و الود الذان تحملهما ملامح شقيقته .
- "( ريما ) قالت لي أنك رفيق سلاح قديم في المقاومة ... في أي فرقة كنت ؟"
إرتج عليّ , لم أعرف ماذا أقول سوى :" الحقيقة .. لم يكن دوري كبيرًا في المقاومة , مجرد مساعدات لأشخاص لم أهتم بمعرفة هويتهم , فقط كان يكفيني أنهم مقاومون , ثم إضطررتني الظروف للسفر قبل التحرير . "
ربت كتفي قائلا :" أنت بطل على أية حال , مجرد تعريض نفسك للخطر لخدمة وطنك أمر يستحق التقدير ... آه ! كانت أيام صعبة , الحرب الأهلية طحنتنا , ثم الإجتياح الذي كان ضربة إفاقة لنا من سفه الإقتتال الداخلي , ثم التحرير , عسى الله أن يكمله على خير . "
تدخلت ( ريما ) :" آمين ... ( فادي ) ألا تقص على ( عصام ) بعض بطولاتك ؟"
ضحك شقيقها بحرج مجيبًا :" لا تبالغي ! كانت مجرد معارك بسيطة ."
" و لكني حقًا أرغب في سماع قصص ... بطولاتك ." قلتها بإندفاع شابته حدة مفاجئة , لاحظت الدهشة في أعينهما فإفتعلت ضحكة , مُقنِعة , و أكملت بإبتسامة :" ألا تريدني أن أفخر بشقيق خطيبتي , بإعتبار ما سيكون ؟ هيا قص عليّ بعض بطولاتك ."
( VI )
" تفجيرات عشوائية في عدة مناطق سكنية , عمل حقير لا يرتكبه إلا شيطان قذر ! إتفاق المصالحة فشل و لله الأمر من قبل و من بعد !"
قالها ( أبو كريم ) , جاري الذي إنتقلت للسكن معه .
" لا تقلق يا (عصام ) , بيتي هو بيتك حتى تجد مسكنًا بدلا من الذي دُمِر , لن ينقصك شيء , و عملك لديك منه إجازة مرضية لمدة شهر . فقط أريدك أن تهتم بنفسك , لا تقتل نفسك بالحزن يا رجل ! و كلما تذكرتهم صلِ لأجلهم و أطلب الرحمة لهم و الصبر لك . "
تمتمتُ بكلمات متآكلة فمال نحوي قائلا :" ماذا تقول ؟ "
- " أ... هل .. هل عرفت الشرطة من الذي .." قاطعني :" فعلها ؟ لديهم مشتبه به لكنهم لا يستطيعون توقيفه , ليست لديهم أدلة كافية ثمة شائعات تقول أنه من قادة شبيبة إحدى الحركات المسلحة . إسمه الحركي ( أبو سعادة ) و إسمه الحقيقي (فادي الشعك)
( VII )
" ما تخطيطكم لما بعد الزواج إن شاء الله ؟ "
إتسعت عينا ( ريما ) لسؤال شقيقها الذي يعتبر موافقة ضمنية على إرتباطنا , قَفَزَت تغرقه بالقبلات و هو يضحك بشدة , برغمي شعرت بدمعة تتسلل من طرف عيني .
- " ( ريما) شقيقتي الوحيدة , هي كل من بقي لي من عائلتي , و لا أستطيع أن أرد لها طلبًا فيه سعادتها . ربما في البداية شعرت ببعض القلق من فارق السن , أعذرني , أنت في الأربعين و فارق خمسة عشر عامًا ليس بقليل . لكني إرتحت لك و أشعر حقًا أن سعادتها ستكون معك إن شاء الله . "
- " لا أعرف ماذا أقول " تمتمتُ
ربت كتفي قائلا :" لا تقل شيئًا , أعرف أنك إنسان طيب , و ( ريما ) قالت لي أنك , أعانك الله , فقدت أسرتك في حادث سير بشع , و مررت بفترة صعبة , رغم هذا خدمت وطنك , حتى و لو كنت تعتبر دورك بسيطًا . ثم ما رأيت الآن من ما يبدو عليك من طيبة و إحترام و ثقافة و رغبة في الحياة رغم كل آلامك السابقة . كل هذا يجعلني أتعاطف معك و أرغب أن تكون فردًا في أسرتنا الصغيرة ."
رشف من قهوته ثم أكمل :" لكني أرغب في معرفة خططكما لما بعد الزواج , لأطمئن أكثر ."
نظرت لها فإبتسمَت مشجعة فقلت :" خططنا عادية , هي ترغب في إكمال الدكتوراة في السوربون , و أنا في عملي في السياحة , لا جديد ."
- " أعني بالنسبة للإقامة . ألم تفكرا في الإقامة في مكان آخر غير باريس أو حتى فرنسا كلها ؟ "
تبادلت مع ( ريما ) نظرة دهشة , لاحظها فقال و قد حملت نبرته حزمًا واضحًا :" هذا شرطي للموافقة على الزواج .. و لي أسبابي , التي من حقكما معرفتها , و أنا واثق أنها ستقنعكما ."
( VIII )
- " سافر ؟"
- " نعم ... الوغد ! "
- " إلى أين ؟"
- " الله وحده يعلم ... هرب .. فر ... إختفى .. كأنما هو هواء . لا يعلم أحد كيف سافر رغم حصار الحدود لكنه فعلها "
أغمضت عيناي بقوة فوضع ( أبو كريم ) كفه على كتفي قائلا برفق :" و حتى لو كان قد بقي في البلاد .. ماذا كنت ستفعل ؟ الحرب الأهلية إنقضت و الكل الآن مشغول بتحرير العاصمة من المحتلين , توجد قضية أهم ! "
هببت صائحًا :" توجد قضية أهم .. فلتذهب قضايانا التافهة إذن إلى الجحيم .. فليذهب دم أمي و إبنتي و زوجتي إلى حيث ألقت !! "
صاح بي :" لم أقل هذا ! قلت أن العالم كله مشغول بما هو أكبر ! و أنت تريد ترك كل هذا و البحث عن رجل من مئات الرجال الذين قتلوا و سفكوا و دمروا ! أنت أخيرًا كنت قد وجدت لك حياة و خرجت من إنطوائك , فهل كنت تنوي تدميرها ثانية بيدك هذه المرة ؟ لو كنت قد قتلته من قبل كان العالم سيقول أنك بطلا , أما الآن فقتله يجعلك خائنًا ! بغض النظر عن حقيقته و حقيقتك ! هكذا يفكر العالم !"
-" تباً للعالم "
- " تبًا له ألف مرة و لكن لا تدمر نفسك ! " خفض صوته و قال برفق أبوي :" يكفي ما أصابك , و لتدعو الله أن تمر تلك الأيام على خير لتعود الحياة لطبيعتها , و تعود أنت لحياتك , أنت ما زلت شابًا يا بني ."
ساد صمت إلا من تردد أنفاسنا ...ثم
" ( أبو كريم ) "
نظر لي متسائلا
-" منذ فترة أتسائل كيف تبلغك تلك الأخبار ؟ عن الشك في ( فادي الشعك ) , سفره , إلخ .. كيف تعلم كل هذا ؟"
جلس صامتًا و تشاغل بإشعال سيجارته
- " ( أبو كريم ) .. هل لك علاقة بالمقاومة أو أية فرق مسلحة ؟"
( IX )
" لهذا يجب أن ترحلا عن فرنسا ."
ترقرقت دموع (ريما ) في عيونها المذهولة فمال نحوها برفق و قبل وجنتها ثم قال:" الحرب إنتهت منذ سنوات , لكن بقايا ضغائن قديمة بدأت تطفو على السطح. العدو يريد أن يداري هزائمه في جبهاته الأخرى بإحداث ضجة من خلال قتل أو إختطاف من شاركوا في مقاومته بعد الإجتياح . و كما تعلمين أنا كنت من قادة شباب المقاومين . الأمر ليس مؤكدًا لكنه يستحق التصرف , و مجرد خروجي اليوم لمكان عام يشكل مخاطرة حمقاء لكني لم أستطع كسر قلبك . "
منعت نفسي بصعوبة من صفعه لقاء كذبته الوقحة .. لمحت رجفة في وجنته اليمني , نمت عن شعوره بالخجل من كذبه على من تعتبره بطلها الأول .
صاحت ( ريما ) :" بعد كل هذه السنوات ؟" إحمر وجهها بملاحظتها أعين المتسائلين عن صياحها , على الموائد المجاورة
أجاب شقيقها :" أنا أيضًا حسبت الأمر إنتهى ... لكني كنت مخطئًا .. و كنت أنوي إبلاغك لولا بادرتِ بإخباري بتقدم (عصام ) لكِ " ثم حول وجهه إلي قائلا :" (عصام) , ثقتي بحسن حكم شقيقتي على الناس , و ثقتي بأنك تحمل أخلاق بطل , جعلاني أثق بك و أأتمنك على سري , ستتزوجان في أقرب وقت , ثم ترحلا ! إذهبا إلى أمريكا , البرازيل . لنا هناك جالية كبيرة , عودا حتى إلى الوطن , و لكن رجاء , إرحلا عن بلد أنا فيه , لا أريد أن يصيبكما مكروه . و أي بلد تذهبان إليه , ستجدان فيه من يعرفني و يسره مساعدتكما , سأرتب كل شيء لكما بإذن الله ."
- " و أنت ؟" قالت حبيبتي من بين دموعها فأمسك كفها بحنان و قال :" أنا أجيد تدبر شئوني , لا تقلقي , سأختفي قليلا ثم ستجداني معكما , سأعود بإسم و ربما شكل جديد لكنني سأبقى . لا تقلقي ." مد كفه يمسح دموعها و هو يتمتم " لا تقلقي "
( X )
طرقتُ الباب بإيقاع متفق عليه مسبقًا . فتحه شاب في مثل عمري
ثلاثة رجال عليهم الوقار , أشار أكبرهم لي أن أجلس و قال :" تفضل يا ( عصام ) "
تشاغل في تصفح ملف , لمحت عليه إسمي , بينما قال رجل آخر :" بدون مقدمات يا (عصام ) , عملك معنا لم يعد آمنًا , لا عليك و لا علينا .
صعقتني العبارة , قبل أن أسأل بادرني الأول و هو يغلق الملف :" أنت شاب وطني , متحمس , شجاع . مساعداتك لنا تقول هذا .. حماسك لتقديم العون للمقاومة يثبته . لكن .. ثمة مقاييس إضافية نحكم بها على الرجال . "
إعتدل في كرسيه و أكمل :" عندما أوصانا (أبو كريم) بقبولك بيننا , لم نتردد لثقتنا به أولا , و لإطمئناننا لما جمعناه عنك من معلومات ثانيًا . لكن ثمة مشكلة , المقاوم يحركه إحساسه الوطني ."
إندفعت أقول :" و أنا كذلك ."
أشار لي أن أصبر و أكمل :" المقاوم يحركه إحساسه الوطني , فقط ! لا أنكر أن وطنيتك بادية في إخلاصك و إتقانك أداء ما يُطلَب منك لكن .. ثمة محركات أخرى لك , لا نستطيع معها إبقائك معنا ." صمت قليلا ثم قال :" الرغبة في الإنتقام , و رغبة أخرى في الإنتحار ... ( عصام ) , المقاوم عندما يخرج لعمله فهو يبحث عن النصر , أنت تبحث عن الموت ! إنتحاريتك المبالغ فيها , إندفاعك نحو الخطر بلا روية , يقولان هذا . بالإضافة لما مررت به من قبل , أعني فقدانك أسرتك , عفوًا لقسوة كلامي , كل هذا يجعلنا نتخذ قرارنا بإنهاء خدمتك , مشكورًا , في المقاومة ."
هببت من مقعدي مصدومًا فأسرع يقول :" و الله لا ننتقص من وطنيتك أو شجاعتك , لكن لكل مهمة رجال , و لكل رجال مهام , و أنت مهامك أديتها كاملة , فإترك فرصة لغيرك ."
أكمل الرجل الآخر :" القرار لا يتوقف عند تركك المقاومة يا (عصام) , بل نرى تركك البلاد كلها , بقاءك هنا لا هو آمن لك و لا لنا .."
تمتمت كالمخدر :" إلى أين ؟"
أجاب :" باريس , لنا جالية كبيرة هناك , و هناك رجال وطنيون يسعدهم الوقوف بجوار من خدموا البلاد مثلك . ستجد كل شيئًا معدًا , عملا , مسكنًا , و لو إحتجت أي شيء ستجدهم في خدمتك . " ناولني مظروفًا كبيرًا " ستجد هنا الأوراق اللازمة , و بعض المال , سيقوم بعض الزملاء بتهريبك من البلاد بدولة مجاورة و منها إلى فرنسا , ستحصل عند وصولك إلى باريس على مبلغ محترم يكفي لتبدأ حياتك .. إعمل يا (عصام) , تزوج و كون أسرة ... فقط إنزع من رأسك فكرتي الإنتقام و الإنتحار . في الأولى دمارك , و في الثانية كفرك . وفقك الله يا بني ."
( XI )
كيف تسير الأيام ؟ ما الذي جرى ؟
كلما تعجبنا من تدبير القدر , أرانا أعجب و أغرب
القدر هو القدر , لا عجب فيه
بل هو قصورنا عن فهمه ما يثير العجب , فمهما فعلنا , يبقى القدر أعظم المؤلفين لأحداث الأيام .
سافرت إلى باريس , وجدت كل شيئًا مرتبًا لإقامتي كما قيل لي . صادقًا حاولت أن أعيش و أن أعيد تشكيل حياتي , لم يكن دافعي الرغبة في الحياة , بل اليأس من تحقيق الإنتقام , و يا لها من سخرية : يأسي من غاية أعيش لها , يصنع حياتي بنجاح!
عملي في السياحة أتاح لي رؤية العالم , رغم ما رأيت و شهدت من غرائب , بقي شغفي بمراقبة الوجوه , بالذات العاملين بالإستقبال في الفنادق و المطارات . كيف يبدو هؤلاء حين ينزعون الملامح المبتسمة الصافية ؟ هل بينهم مريض ؟ بائس ؟ فاشل في زواجه ؟ هل بينهم من بضربة واحدة فقط أسرته , مثلي ؟
أتاح لي عملي الإقامة لأسابيع , بل و أحيانًا نادرة لشهور , في مختلف العواصم , إندمجت في عملي محاولا نسيان الماضي .
ثم رأيتها .. و أحببتها ..
نعم هكذا ... ما بين الكلمتين لا يهم لأبحث فيه ... كنت كضائع في صحراء قاسية الشمس فوجد ماءً و ظلا , لن يسأل كيف و لماذا . سيرتوي و يستظل , ثم بعد ذلك ربما يتسائل .
لا تهم التفاصيل , تكفي تفاصيل قليلة : فتاة جميلة- جذابة- تدرس في السوربون و تعمل كمرشدة سياحية على سبيل زيادة الدخل- ننتمي لنفس الوطن- لسنا متشابهين تمامًا لكن يكفي أن كل منا يشعر بقمة الراحة مع الآخر .
" ما قصتك ؟" سألتني و نحن يومًا نجلس في " كافيه جورج سانك " بعد إلحاح شديد منها في نهاية يوم عمل مرهق .
- " قصصت عليكِ كل شيء ."
- " ليس كل شيء ."
نظرت لها متسائلا فأكملت :" لم تقص عليّ ما جرى لأسرتك ."
بقيت صامتًا أنظر إليها , إرتبكت و بدا الحرج على وجهها فقالت :" آسفة , كنت فقط أظن أني أستطيع أن أخفف عنك . لكني يبدو أني .."
-"حادث سير بشع ." قاطعتها
صمتت و مدت يدها نحو ظهر كفي في تردد فمددت يدي الأخرى و أنهيت ترددها بوضعها على ظهر الكف المستقر على المائدة .
- " ( ريما ) ... أنا أحبك ."
لم تتكلم , بقيت صامتة كأنها لم تسمع .
-" متى يمكنني التقدم لك ِ "
أجابت ببساطة أدهشتني :" سأعطيك رقم أخي , إنه كل من بقي لي من أسرتي ."
رفع حاجبيّ بدهشة لسرعة رد فعلها فقالت :" لا تندهش ... لو لم تقلها لقلتها أنا ."
- " بهذه البساطة ؟"
-" العمر أقصر من أن يضيع المحبون أوقاتهم في كلام معروفة نهايته ."
أخرجت من حقيبتها بطاقة صغيرة و قالت :" هذا رقم أخي .. تحدث إليه ."
نظرت للبطاقة , أنيقة بسيطة , مكتوب عليها بحروف لاتينية Fadi ALCHAAK – سمسار شحن و تفريغ معتمد في موانيء المتوسط
حاولت قراءة الإسم الثاني و قلبي ينبض بشدة .. لاحظت تركيزي فقالت :" الإسم الثاني هو الشعك لكن أنت تعلم أنهم يكتبون هنا العين A مكررة , إسمه (فادي الشعك) "
( XII )
كنت قد عدت لمنزلي بعد لقائي بها و ب(فادي ) بأيام , أعد نفسي للسفر السريع .
ما يدهشني هو أني لم أصدر أي رد فعل للمصادفة المذهلة , كنت قد رأيت في حياتي ما جعلني لا أندهش مهما رأيت مجددًا . عدوي القديم , قاتلي , معي في بلد واحد , و من دون كل فتيات العالم لا أميل إلا لشقيقته . ألم أقل أن القدر هو أعظم المؤلفين .
أعترف أني ممرت بلحظات رفض و عدم تصديق . عربدت في رأسي أفكار عدة : تجاهل الأمر و الإستمرار في مشروع الزواج , فكرت في ترك كل شيء و الرحيل لبلد آخر , حتى الإنتحار فكرت به . ثم تدريجيًا ذهب ذهول الصدمة و بدأ التفكير المنظم يسود الموقف .
أبلغت الأصدقاء القدامى الذين وقفوا إلى جانبي منذ قدمت إلى باريس , أن ثمة عملا مرموقًا معروض عليَ في الوطن , و أني سأتزوج هنا في باريس , في مقر الجالية , ثم أسافر مع عروسي . باركوا الأمر و وعدوني بالتعاون .
لم أقل لهم ما عملت من وجود (فادي) هنا .. أعلم أنه كاذب و أن من يطارده ليس العدو القديم , بل هي تصفية حسابات قديمة بين الفصائل . حتى أني لم أندهش من هذا رغم مرور سنوات على ما فات , لا بد أن ثمة أمور من نوعية " عرف أكثر من الازم " أو أن ثمة أمر سري لم ينته بعد , لا يهم .
شعرت ببعض الذنب إذ أخفيت عن من ساعدوني أن المجرم القديم الذي طالما بحثوا عنه كان في باريس على بعد شوارع منهم , لكن لا حيلة لي في إخفائي . إبلاغهم يعني كشف كل شيء ل(ريم) . كما أن هذه معركتي و عليّ أنا إنهائها .
دخلت غرفتي , نظرت إلى سريري , عليه السموكن الأنيق , القميص المكوي , البابيون الصغير , و مسدس بكاتم صوت .. للإحتفال !
( XIII )
" آلو (عصام) كيف حالك يا عريس ؟"
-" مرحبًا ( فادي )."
-" ماذا بك ؟ صوتك يبدو متعبًا ."
إصطنعت ضحكة –"هو توتر ما قبل الزفاف ."
ضحك كثيرًا ثم قال :" حسنًا , سأمر عليك بعد قليل لمساعدتك في الإستعداد ."
-" ستترك ( ريما ) وحدها ؟"
- " لا تقلق , صديقاتها معها , النساء يجدن هذه الأمور كما تعلم ."
-" حسنًا .. أنا في إنتظارك ."
كل شيء يسير كما خططت له . سأطلب منه مساعدتي في حلاقة ذقني ليدخل معي الحمام , حيث يسهل تنظيف آثار العمل , سأضع المسدس تحت المنشفة , ثم الباقي معروف .
طلقة أو إثنتان , الجثة يسهل التخلص منها , فأنا أسكن وحدي في منزل في الحي السادس عشر , حيث الهدوء و الخصوصية , و من السهل نقلها مع السلاح في سيارتي و إلقاءهما في النهر . عمل بسيط لمن يحمل خبرة مثلي إستمدها من عمله في المقاومة , و لو كان لمدة قصيرة .
الإتهامات لن تطالني , الرجل مطلوب أصلا , و هكذا لن يتهمني أحد , و لن تعلم شقيقته حقيقته المخزية .. ستتألم كثيرًَا , أعلم هذا لكن لا مفر .. سأجعلها تنسى , أنا واثق من هذا . كما أني بهذا أحميها , من أدراني أن لا يحاول البعض قتلها هي تنكيلا بشقيقها ؟ أو قد يطالها الأذى بغير قصد ممن يقصدون (فادي).
ما يضايقني هو شعور غريب .. شعور أني بعد أن كنت "أكره " هذا الرجل , أصبحت " أؤدي واجبًا يقتضي أن أكرهه " . ملامحه الوديعة , رقته مع (ريما) , حديثه الودود معي ... شعور بأن في حياته مطاردٌ أقصى العقاب , و في خزيه لإضطراره للكذب على شقيقته الوحيدة أعتى نكاية .
بعد أن كنت أبغضه بشكل طبيعي , أحسني أبغضه على سبيل الواجب .
إستغرقت أفكاري دقائق , أخرجني منها قسرًا رنين الهاتف رفعت السماعة لأجد صوت (فادي) المرتبك يصيح :" (عصام ) أحتاج مساعدتك فورًا ."
إضطرب قلبي و قلت :" ماذا جرى ؟ هل ( ريما) ..." قاطعني " بخير بخير ! أرجوك ساعدني فورًا, عملت توًا أن من يطاردونني في طريقهم إليّ بعد أن إقتحموا مكتبي و قتلوا عاملين فيه ! و أنا كنت في طريقي إليك عندما جائني الخبر فإضطررت لتغيير مساري !حاولت الإتصال بالصديق الذي دبر معي أمر هربي من فرنسا لكنه لا يجيب!"
- " ماذا يمكنني أن أفعل ؟"
-" سأعطيك عنوانه ! أخبره بما جرى و قل له ... تبًا !"
صحت :" ماذا حدث ؟"
- " سيارة تلاحقني ! لا بد أنهم هم .. (عصام ) ! إذهب لصديقي , إٍسمه (بيير) , قل له أن يرسل لي فورًا من ينتظرني عند حدود باريس بسيارة أخرى و سلاح و هوية , أسرع بالله عليك ! هاك العنوان و سأحاول الإفلات من السيارة المطاردة !أنت الوحيد الذي يمكن أن أثق به ! "
أعطاني العنوان فكتبته على عجل .. و ... جلستُ
بقيت أحدق في الورق بشرود لا يتناسب مع إنفعالي الشديد .
يا للحيرة
يمكنني الآن أن أنقذه لأٌقتله بنفسي
و يمكنني أن أترك لغيري أمره
عدوي , قاتلي , مدمري
لم يرني سوى مرة واحدة .. لكنه وثق بي
لم يتحدث معي إلا مرة , ثم إعطاني عنقه
لكن ما يدهشني أني لست سعيدا ..
وجه (ريما) دموع لوعتها تقف أمامي
ما زالت بي حيرة
أساعده لأنتقم بنفسي ؟
أتركه لمصيره؟
أم أنقذه , و .. و ... أعيش متناسيًا ثأري ؟
أفقت من شرودي لأجدني قد قمت و إستقللت سيارتي .. بل و أدرتها و سرت بها ..
إلى أين أذهب ؟
لماذا لا أتركه لمصيره ؟ ألم أكن أنوي قتله ؟ ترى هل كنت سأتردد بهذا الشكل عند التنفيذ لو سارت الأمور كما خططت لها ؟
هل كانت ستقف في وجهي عندئذ ملامحه الوديعة , رقته مع (ريما ) , حديثه الودود معي ؟
لا أعرف ...
فقط أعرف أني منطلق بالسيارة بشكل آلي , في طريق رئيسي يودي لكل الطرق ..
يمكنني أن أذهب لصديقه , يمكنني أن أعود أدراجي , فقط وجدتني أضحك فجأة كالمجنون لشيء واحد ...
لقد نسيت مسدسي في المنزل ...
( تمت بحمد الله تعالى )
وليد فكري
الإسكندرية , 11 من سبتمبر 2007م