أنا لست مسئولاً عن هذا ! لست مجنونًا لأقرر , بكامل إرادتي, أن أترك بلادي و ألقي بنفسي في أتون هذا البلد الشرقي البعيد .. أتنفس الغبار و البارود و أنا ألعن ساعة ميلادي بينما الشمس تضرب مؤخرة عنقي بسياط من لهب و العرق يتسلل مقززًا بين جسدي و زيي العسكري , أحتضن سلاحي الآلي بدلا عن فتاتي الجميلة . لم يعد اللون الأخضر يمثل لي سوى لون الآليات و الأزياء المموهة , لم تعد للألوان كلها معانٍ . كل شيء جميل تم محوه من خانات ذاكرتي و أضيفت محله بيانات و معطيات أخرى تلائم واقعي. لم أعد أرى للشمس فائدة إلا أن تكون في أعين العدو عند الهجوم , و لا للليل غرضًا إلا أن يكون ستارًا لعملياتي السرية , و الأشجار لم تعد تصلح سوى للتستر بها . لا بالتأكيد لم يكن هذا قراري و لا يمكن أن يكون,هناك من جُنوا نيابة عني و عن زملائي فوضعونا في هذا الجحيم و قالوا لنا هذا بإسم الوطن , بإسم قيم العدل و الحق و الخير .
أترى ؟ ليس هذا خطئي إذن,فلا تلمني لما جرى لك ! أنا مجرد جندي , فرد , قادتي علموني أن أكون ما أنا عليه.. أنت أيضًا غير ملوم , فقادتك علموك أنت تكون .. ما أنت عليه . كل منا له دوره , و عليه تقبل قدره . طبعًا هذا لا يعني أننا سواء , لا .. لا تضحكني من سذاجتك . لا تقل لي كلانا بشر , فأنا لن أقتنع أنك مثلي بشر, رغم التماثل البيولوجي بيننا , فالبشرية أكبر من أن تكون تشابهًا حيويًا . لا أقنعك ؟ حسنًا .. فلنر ما قيمتك مقارنة بقيمتي ؟ أنا مواطن محترم في بلادي , أعيش في بيت يليق بآدمي , آكل ما يناسب الآدميين و أشرب ما يشربون , أتعلم مثلهم و رأيي يُعتَد به و أقل إنتقاص من قيمتي أو تهديد به يُواجَه بضربة حازمة على رأس فاعله و تعويض لائق لي ! هكذا حياتي , التي أرسلني قادتي هنا دفاعًا عنها , كما قالوا لي , أما إن مِت فسأُدفَن دفنة لائقة و غالبًا سيحمل إسمي وسام الشجاعة. ماذا عنك ؟ ماذا تمثل حياتك؟ هل تختلف قيمة كرامتك عن كرامة أية بهيمة يضربها سائقها بسوط على وجهها مع أول معارضة منها ؟ هل تلقى المعاملة الطيبة إلا و أنت محني الظهر تنتظر تسريجك و تلجيمك تمامًا كالمطية ؟! هل جربت حين تخاطب صاحب منصب أو شأن أن يتخذ عنقك مع ظهرك وضع المئة و ثمانون درجة؟ أن يجرب صوتك طبقات أعلى ؟ أن تعرف لون عينيه بالنظر المباشر ! ألا تريعك كثرة أدوات الموافقة و التوكيد في لغتك قياسًا بأدوات النفي و الإستفهام ؟! هل جربت لموقعك من الإعراب موقع الفاعل لا المفعول به ؟ماذا تساوي حياتك سوى ورقة مهترئة في سجل ملوث ببقايا طعام موظف ملأ بياناتك و بيانات أمثالك و هو جالس على مقعد متهالك خلف مكتب رمادي صديء ممسكًا بيد قلمه و بالأخرى شطيرة بها فتات طعام تأنفه كلابنا ؟ ماذا يساوي موتك سوى ورقة مماثلة في سجل مماثل و قبر مغبر سرعان ما تجرفه جرافات البلدية لتوسع طريقًا رئيسيًا يليق بموكب الزعيم ؟! لا تطلب مني أن أتخلى عن تعريفي الطبيعي للآدمية و أنزل لمستوى تعريفك المختل ! فمثلك إن سُميَ "آدميًا " بكل ما فيه , فإنها إهانة تلحق بآدميتي الحقيقية! كأنك أتيت لي بحمار جر و أخبرتني أنه "أخي" ! إبحث في أي قاموس عن معنى كلمة "آدمي" لتدرك أي إفتراء على الآدميين بإلحاقك بهم!
أنت الآن مكمم , مقيد , عارٍ ,ملوث بالفضلات , معدوم الحيلة و الكرامة و الآدمية , و قد كنت كذلك من قبل , فلا تتهمني بسلبك آدمية لم تكن لك , هذه بضاعتك رُدَت إليك , بل لم تُسلَبها من الأساس ! فلِم الشكوى ؟! أليس أكثر أهل الأرض وقاحة و تبجحًا من يدعي فَقد شيء لم يكن له ؟ هذا ما تفعله الآن !
لست مثلك و إن كنت أصف من جائوا بي إلى هنا بالجنون , فجنونهم جعل حياتي تساوي نقودًا بالمليارات و ملايين براميل النفط , خيرات لا بد أني سأستفيد من وجودها . أنا غاضب؟ هذا طبيعي , فلا أحد يحب أن يعيش في جحيم الحرب و الموت , لكن من أرسلوني لم يدعوا لي مجالا للغضب عليهم , فلا بد من أحد يدفع فاتورة الغضب , و ما دمت أنت ترضى , أو لنقل لا تعارض , فلماذا لا أرسل الفاتورة على عنوانك ؟ قل لي ماذا عساي أن أفعل بك أكثر مما هو مفعول ؟ ماذا لديك لتخسره ؟ فكر معي : ألست تتسائل حين ترانا نرتدي الملابس الخفيفة في جو بالنسبة إليك قارص , كيف نتحمل البرد ؟ ألا تجد من يقول لك أننا إعتدناه لأن بلادنا في الشمال باردة و لم نجرب جوكم الجاف الدافيء ؟ الأمر سواء , أنا كنت أتسائل :كيف تتعايشون مع الذل ؟ و كنت أجد من يجيبني أنكم إعتدتموه حتى عجزتم عن تخيل غيره .. فلماذا تشكو؟ ماذا سأضيف لما بك أكثر مما بك ! كل الإختلاف هو طبيعتي الغربية الصريحة التي لا تجمل الأشياء بإعطائها إسماء و مبررات تجعلها من قبيل المقبول بل و الواجب قبوله . ستجد هذا صعبًا في البداية ثم سرعان ما ستعتاده , فأنتم تتميزون بسرعة التكيف و الإعتياد .
أراك ما زلت تجد منطقي عسير الفهم .. حسنًا سأعطيك مثالاً آخر .. أنت لديك قمامة في منزلك, و ليس متاح لديك صندوق تلقي فيه قمامتك فأين ستلقيها ؟ في أقرب أطلال خربة, خرابة كما تقولون في لغتكم التي أفهم منها القليل , أليس كذلك ؟ الأمر مماثل , أنظر لوجهي و وجوه زملائي , كل منا لديه همومه و مشكلاته , إحباطاته و مخاوفه و ضغوطه , كل هذا يلوث أرواحنا و يثقلها و يهد بإتلافها إن لم نلقه في أقرب صندوق مهملات . المشكلة أننا لم نجد في بلادنا خرابات تصلح لهذا الغرض .. بينما وجدناها لديكم في كل مكان , و رأينا أن ما يلوث عالمنا أقل إتساخًا من ما يصنع عالمكم ! فلماذا تشكون من إلقائنا قمامة لديكم ما هو أقذر منها؟! قادتنا أدركوا هذا و بعمليتهم المعهودة أدركوا كيفية إستثماره , أرسلونا هنا لنلقي أوساخنا عندكم و نستبدلها بالنفط و المال و الأرض , ثم نعود متطهرين . هكذا نضع كل عنصر في مكانه المناسب , يبقى عالمنا نظيفًا و يبقى لعالمكم تلوثه الذي إعتدتموه . لم نأتكم بجديد حتى تصرخوا بهذا الشكل المزعج ! الصفقة , لو دققتم النظر , عادلة تمامًا , فأنتم إخترتم لأنفسكم دور "الخرابة" , نحن وجدناكم "هكذا" و نحن لا نفعل سوى إحترام إختياركم الحُر !
ما زلت لا تريد فهمي .. أنتم تغيظونني ببطء فهمكم أيها القوم ! ماذا أطلب منكم سوى ما إعتدتموه ؟ ماذا أفعل بكم سوى ما ألفتموه ؟ هل رأيتم مني إختلافًا ؟ كل ما أطلب منك أن لا تجرب معي أن يتخذ عنقك مع ظهرك وضع المئة و ثمانون درجة , أن لا تجرب طبقات أعلى لصوتك , أن لا تحاول معرفة لون عيناي .. لا تجرب مقاومتي فلو كنت تجيدها ما كنا لنجلس هذا المجلس و ربما ما كنا لنرى فيكم ما رأينا .. بالتأكيد لك أن ترفض ما سأفعل بك , و لكن في صمت ..أنا لا أطلب منك أمرًا مرهقًا أو عسيرًا .. أنا لا أطلب منك سوى ما إعتدته أنت و أدمنته و تنفسته .. الصمت !
-----------------
وليد