Saturday, May 24, 2008

تــطــهــيــر

تطهير !


أنا لست مسئولاً عن هذا ! لست مجنونًا لأقرر , بكامل إرادتي, أن أترك بلادي و ألقي بنفسي في أتون هذا البلد الشرقي البعيد .. أتنفس الغبار و البارود و أنا ألعن ساعة ميلادي بينما الشمس تضرب مؤخرة عنقي بسياط من لهب و العرق يتسلل مقززًا بين جسدي و زيي العسكري , أحتضن سلاحي الآلي بدلا عن فتاتي الجميلة . لم يعد اللون الأخضر يمثل لي سوى لون الآليات و الأزياء المموهة , لم تعد للألوان كلها معانٍ . كل شيء جميل تم محوه من خانات ذاكرتي و أضيفت محله بيانات و معطيات أخرى تلائم واقعي. لم أعد أرى للشمس فائدة إلا أن تكون في أعين العدو عند الهجوم , و لا للليل غرضًا إلا أن يكون ستارًا لعملياتي السرية , و الأشجار لم تعد تصلح سوى للتستر بها . لا بالتأكيد لم يكن هذا قراري و لا يمكن أن يكون,هناك من جُنوا نيابة عني و عن زملائي فوضعونا في هذا الجحيم و قالوا لنا هذا بإسم الوطن , بإسم قيم العدل و الحق و الخير .



أترى ؟ ليس هذا خطئي إذن,فلا تلمني لما جرى لك ! أنا مجرد جندي , فرد , قادتي علموني أن أكون ما أنا عليه.. أنت أيضًا غير ملوم , فقادتك علموك أنت تكون .. ما أنت عليه . كل منا له دوره , و عليه تقبل قدره . طبعًا هذا لا يعني أننا سواء , لا .. لا تضحكني من سذاجتك . لا تقل لي كلانا بشر , فأنا لن أقتنع أنك مثلي بشر, رغم التماثل البيولوجي بيننا , فالبشرية أكبر من أن تكون تشابهًا حيويًا . لا أقنعك ؟ حسنًا .. فلنر ما قيمتك مقارنة بقيمتي ؟ أنا مواطن محترم في بلادي , أعيش في بيت يليق بآدمي , آكل ما يناسب الآدميين و أشرب ما يشربون , أتعلم مثلهم و رأيي يُعتَد به و أقل إنتقاص من قيمتي أو تهديد به يُواجَه بضربة حازمة على رأس فاعله و تعويض لائق لي ! هكذا حياتي , التي أرسلني قادتي هنا دفاعًا عنها , كما قالوا لي , أما إن مِت فسأُدفَن دفنة لائقة و غالبًا سيحمل إسمي وسام الشجاعة. ماذا عنك ؟ ماذا تمثل حياتك؟ هل تختلف قيمة كرامتك عن كرامة أية بهيمة يضربها سائقها بسوط على وجهها مع أول معارضة منها ؟ هل تلقى المعاملة الطيبة إلا و أنت محني الظهر تنتظر تسريجك و تلجيمك تمامًا كالمطية ؟! هل جربت حين تخاطب صاحب منصب أو شأن أن يتخذ عنقك مع ظهرك وضع المئة و ثمانون درجة؟ أن يجرب صوتك طبقات أعلى ؟ أن تعرف لون عينيه بالنظر المباشر ! ألا تريعك كثرة أدوات الموافقة و التوكيد في لغتك قياسًا بأدوات النفي و الإستفهام ؟! هل جربت لموقعك من الإعراب موقع الفاعل لا المفعول به ؟ماذا تساوي حياتك سوى ورقة مهترئة في سجل ملوث ببقايا طعام موظف ملأ بياناتك و بيانات أمثالك و هو جالس على مقعد متهالك خلف مكتب رمادي صديء ممسكًا بيد قلمه و بالأخرى شطيرة بها فتات طعام تأنفه كلابنا ؟ ماذا يساوي موتك سوى ورقة مماثلة في سجل مماثل و قبر مغبر سرعان ما تجرفه جرافات البلدية لتوسع طريقًا رئيسيًا يليق بموكب الزعيم ؟! لا تطلب مني أن أتخلى عن تعريفي الطبيعي للآدمية و أنزل لمستوى تعريفك المختل ! فمثلك إن سُميَ "آدميًا " بكل ما فيه , فإنها إهانة تلحق بآدميتي الحقيقية! كأنك أتيت لي بحمار جر و أخبرتني أنه "أخي" ! إبحث في أي قاموس عن معنى كلمة "آدمي" لتدرك أي إفتراء على الآدميين بإلحاقك بهم!

أنت الآن مكمم , مقيد , عارٍ ,ملوث بالفضلات , معدوم الحيلة و الكرامة و الآدمية , و قد كنت كذلك من قبل , فلا تتهمني بسلبك آدمية لم تكن لك , هذه بضاعتك رُدَت إليك , بل لم تُسلَبها من الأساس ! فلِم الشكوى ؟! أليس أكثر أهل الأرض وقاحة و تبجحًا من يدعي فَقد شيء لم يكن له ؟ هذا ما تفعله الآن !



لست مثلك و إن كنت أصف من جائوا بي إلى هنا بالجنون , فجنونهم جعل حياتي تساوي نقودًا بالمليارات و ملايين براميل النفط , خيرات لا بد أني سأستفيد من وجودها . أنا غاضب؟ هذا طبيعي , فلا أحد يحب أن يعيش في جحيم الحرب و الموت , لكن من أرسلوني لم يدعوا لي مجالا للغضب عليهم , فلا بد من أحد يدفع فاتورة الغضب , و ما دمت أنت ترضى , أو لنقل لا تعارض , فلماذا لا أرسل الفاتورة على عنوانك ؟ قل لي ماذا عساي أن أفعل بك أكثر مما هو مفعول ؟ ماذا لديك لتخسره ؟ فكر معي : ألست تتسائل حين ترانا نرتدي الملابس الخفيفة في جو بالنسبة إليك قارص , كيف نتحمل البرد ؟ ألا تجد من يقول لك أننا إعتدناه لأن بلادنا في الشمال باردة و لم نجرب جوكم الجاف الدافيء ؟ الأمر سواء , أنا كنت أتسائل :كيف تتعايشون مع الذل ؟ و كنت أجد من يجيبني أنكم إعتدتموه حتى عجزتم عن تخيل غيره .. فلماذا تشكو؟ ماذا سأضيف لما بك أكثر مما بك ! كل الإختلاف هو طبيعتي الغربية الصريحة التي لا تجمل الأشياء بإعطائها إسماء و مبررات تجعلها من قبيل المقبول بل و الواجب قبوله . ستجد هذا صعبًا في البداية ثم سرعان ما ستعتاده , فأنتم تتميزون بسرعة التكيف و الإعتياد .



أراك ما زلت تجد منطقي عسير الفهم .. حسنًا سأعطيك مثالاً آخر .. أنت لديك قمامة في منزلك, و ليس متاح لديك صندوق تلقي فيه قمامتك فأين ستلقيها ؟ في أقرب أطلال خربة, خرابة كما تقولون في لغتكم التي أفهم منها القليل , أليس كذلك ؟ الأمر مماثل , أنظر لوجهي و وجوه زملائي , كل منا لديه همومه و مشكلاته , إحباطاته و مخاوفه و ضغوطه , كل هذا يلوث أرواحنا و يثقلها و يهد بإتلافها إن لم نلقه في أقرب صندوق مهملات . المشكلة أننا لم نجد في بلادنا خرابات تصلح لهذا الغرض .. بينما وجدناها لديكم في كل مكان , و رأينا أن ما يلوث عالمنا أقل إتساخًا من ما يصنع عالمكم ! فلماذا تشكون من إلقائنا قمامة لديكم ما هو أقذر منها؟! قادتنا أدركوا هذا و بعمليتهم المعهودة أدركوا كيفية إستثماره , أرسلونا هنا لنلقي أوساخنا عندكم و نستبدلها بالنفط و المال و الأرض , ثم نعود متطهرين . هكذا نضع كل عنصر في مكانه المناسب , يبقى عالمنا نظيفًا و يبقى لعالمكم تلوثه الذي إعتدتموه . لم نأتكم بجديد حتى تصرخوا بهذا الشكل المزعج ! الصفقة , لو دققتم النظر , عادلة تمامًا , فأنتم إخترتم لأنفسكم دور "الخرابة" , نحن وجدناكم "هكذا" و نحن لا نفعل سوى إحترام إختياركم الحُر !



ما زلت لا تريد فهمي .. أنتم تغيظونني ببطء فهمكم أيها القوم ! ماذا أطلب منكم سوى ما إعتدتموه ؟ ماذا أفعل بكم سوى ما ألفتموه ؟ هل رأيتم مني إختلافًا ؟ كل ما أطلب منك أن لا تجرب معي أن يتخذ عنقك مع ظهرك وضع المئة و ثمانون درجة , أن لا تجرب طبقات أعلى لصوتك , أن لا تحاول معرفة لون عيناي .. لا تجرب مقاومتي فلو كنت تجيدها ما كنا لنجلس هذا المجلس و ربما ما كنا لنرى فيكم ما رأينا .. بالتأكيد لك أن ترفض ما سأفعل بك , و لكن في صمت ..أنا لا أطلب منك أمرًا مرهقًا أو عسيرًا .. أنا لا أطلب منك سوى ما إعتدته أنت و أدمنته و تنفسته .. الصمت !



-----------------

وليد

13 comments:

Mohamed Emad Hegab said...

رائع يا وليد قصة اسلوبها جميل و شدتني للأخر و انتا عارف كسلي المعتاد في القراية

دعاء said...

جميله يا وليد مؤلمه نعم.. ولكن جميلة أسلوب وفكرة قد اختلف مع بعض أفكارهاولكن لا يمنع هذا إحكامها وبعض التشبيهات التي اعجبتني جدًا..بعض اختلافتي هي
نحن لم نكن هكذا دائمًا وليس هذا ما جُبلنا عليه حقًا وهم لم يكونوا هكذا وليسوا السادة الدائمين أبدًا

كان في وقت بعمر الاكوان ليس ببعيد نحن من نملك الحق والعلم والحرية من نملك المعنى الحقيق للآدميه وهم من يرتعوا في ظلمات الجهل..

ورغم هذا لم نذهب لنزيد من جهلهم جهلاً ولم نجعلهم خرابتهم تطفو بالقمامه.. بل مددنا أيدينا لننظف لهم الخربات الساكنه في عقولهم..

لذا ليس وضع إنساني ان من يرى شخص يسقط على حافة الهاوية ان يقول وما دخلي انا لقد كان يسقط ولم افعل سوى ان اسهل له ذلك بدفعة من قدمي عندما أردت أن أمدد قدميواريحها

هذا ما يقولة محدث النعمة الخالي من قيمة الانسانية..وهذا ما يحدث بقيم شريعة الغاب

وكذلك لم نصبح نحن الخربات والقوم المنحنون ل90درجة وحدنا .. لا أبرئنا من هذا ولكن لا ألقى كافة اللوم علينا ولا ينكر احد الأصابع الخفية التي ساعدت من جعلوها خرابه حقًا من لديهم مصالح و ساعدوهم ومدوهم بما يحتاجون وامسكوا بكل صوت اراد ان يستقيم وان يعرف لون عيونهم وابادوه لصالح من يريدها خرابه دائمة لاغراضه الشخصية فافادوهم واستفادوا و اليوم يقولون جئنا وجدناكم هكذا وتناسوا دورهم السابق في تقيدينا لنكون هكذا

على اية حال انا مؤمنه ان دوام الحال من المحال..ولو كانت دامت لنا يومًا فستدوم لهم للابد .. في لحظة ما سنستيقظ ربما تأخرت بعض الشيء ولكن التاريخ يقول إنها ستجيء

بتاكيد ستجيء..

Walid FECKRY said...

مرحبا شباب

عماد باشا .. الف شكر يا عزيزي انا اعرف نفاذ صبرك لهذا أقدر حقًا تفاعلك معي

دعاء ازيك؟
انا لا أؤمن بما قال الجندي ..لكني أحاول تخيل وجهة نظر جندي لا يعرف عنا سوى ما رأى و ما أخبره عنا قادته .. لو أضفنا هذا لجهله الواضح و نفسيته المعتلة لفهمنا سبب أفكاره المريضة هذه .. هذا شخص يبحث عن شخص يخرج فيها عقده دون أن يوقفه أحد.. لا يعنيه أي شيء آخر .. و يحاول تبرير فعله لنفسه بأنه من فئة أعلى و أن الأسير العربي من فئة أدنى أو حتى أنه خارج فئة البشر أساسًا

بالطبع نحن لسنا كذلك .. و لكني فقط حاولت تقمص شخصية جندي معتل نفسيًا به من الإحباطات و الغضب ما به يبحث لنفسه عن "وسادة فش غل" يخرج فيها قمامة نفسه.. و مثله لا نتوقع منه أن يفكر بالمنطق و العقل ولا أن يحترم التاريخ و الحضارة


وليد

دعاء said...

وليد ليك عندي تاج لازم تجاوبه وتمرره

ستجده هنا

http://khly-dafyrk.blogspot.com/2008/06/blog-post_23.html

هشام علاء said...

روعة بجد

و يبدو انى ساكون من ضيوف المدونة


تحياتى

Mohamed Abdelgeleel said...

عفوا للتحليق خارج السرب
يدعوكم مركز ضحايا لحقوق الانسان وجميع مدونين الاسكندرية لحضور المؤتمر الصحفي لضحايا التعذيب والانتهاكات والفساد وذلك يوم الاربعاء 9 / 7 / 2008 الساعه الثامنة والنصف مساءا وذلك بمقر المركز 9 شارع مسجد الايمان متفرع من اسكندر ابراهيم خلف جزارة الزهيري
للاستفسار 035484897
0166885063

Anonymous said...

كتبت ردي على هذا العمل فى منتدى روايات

بس بما انك من هواة عدم الرد على التاجات .. انتهزت الفرصة و وجهتلك واحد في مدونتي : وش منتعش :

خالد كامل said...

حبيب قلبى
ازيك يا باشا
كان يوم جامد ومبسوط انى اتعرفت عليك
عامة انا البوس هبقى أقراه فى الكتاب بقى
و هو انا دافع اربعة جنيه مرة واحدة علشان أقرا البوست هنا ولا ايه ؟؟؟
ههههههههههههههههههههههههههههههههههه
عامة أنا متأكد انه هيبقى بوست جميل
بس ليا عندك طلب
ابقى شيل تأكيد ده علشان بكسل
ههههههههههههههههههههههه
سلام

خالد كامل said...

انا كتبت تعليق قبل ده ضاع بسبب ان التأكيد طلع غلط
اهئ اهئ اهئ
مااااااااا علينا
عامة انا هقرا البوست فى الكتاب مش هقراه هنا
ماهو انا مش دافع أربعة جنيه تمن الكتاب علشان أقرا البوست هنا
هههههههههههههههههههههههههههههههههههه
عامة اتا اتشرفت انى اتعرفت عليك النهاردة بجد
و ان شاء الله مش هتكون أول مرة
و خصوصاً بعد الحاجات المشتركة اللى طلعت بيننا
الا و هى تسريحة الشعر
ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
سلام

أحمد فياض said...

تعارف سريع في حفل (مدونات مصرية للجيب) قرأت بعده هذا البوست الجميل في الكتاب فكان يجب أن أرى المدونة لأحييك على كتابتك الرائعة..لا أضيف على التعليقات التي قيلت من قبلي سوى أن الأجمل هو أنك فكرت :كيف يفكر الاخر؟
فنحن لا نفكر في الاخر عادة..تحياتي

elsha3er said...

السلام عليكم
قد تم بحمد الله افتتاح مدونة للسكندرين
فقط ارجو ان تكونى معنا بأضافة رد لحصر المدونين
اللينك
www.firstway1.blogspot.com

احمد الشاعر

Ahmed Kamal said...

قرأت البوست في الكتاب و أعجبني ، أحييك ، و كنت أتمنى أن أجد لديك المزيد ..

تحياتي لك

Ahmed Elfeky said...

قصه رائعه

عدت عليا من روايات إزاى ... مش مهم

أكرر رائعه أعجبتنى عدت مقاطع

أسلوب رائع