Wednesday, October 10, 2007

أمـــيـــن مـــعـــلـــوف _ الباحث عن شيء ما


إن أعظم المبدعين هم أولئك الذين حين نقرأ لهم نجد أنفسنا قد سُرِقنا من محيطنا و إنغمسنا حتى النخاع في سطور و أحداث المقروء , حتى أن العودة لفترة , طويلة أو قصيرة , للمحيط الواقعي , يتطلب جهدًا ليس بالقليل , يصحبه بعض الإحساس بإنعدام الوزن , كذلك الذي يصاب به من بقى كثيرًا في عربة أو قطار مغلق , ثم خرج فجأة ليواجه المؤثرات الخارجية مرئية و مسموعة .
و الأستاذ أمين معلوف من أبرع الكُتاب في فن إصابة القاريء بهذا الشعور , فهو يخطفك من حيث أنت , فيتجاوز تفاعلك مع العمل مرحلة " القراءة " لمرحلة " التعايش " , فتشعر بالأحداث بدلا من أن تقرأها .

فلننظر أولا في بطاقة تعريف الأستاذ أمين معلوف :

أمين رشدي معلوف , كاتب و صحفي لبناني من مواليد بيروت في يوم 25 من فبراير عام 1949م.
درس العلوم الإجتماعية و الإقتصاد , و أكمل دراسته في جامعة القديس يوسف . عمل بعد تخرجه في الملحق الإقتصادي لجريدة النهار البيروتية . سنة 1976م إنتقل إلى فرنسا حيث عمل في مجلة " إيكونوميا " الإقتصادية , ثم تولى رئاسة تحرير مجلة " أفريقيا الشابة " Jeune Afrique" بالإضافة لإستمراره في العمل لمجلة النهار البيروتية , و كذلك النهار العربي و الدولي .
أولى رواياته هي " الحروب الصليبية كما يراها العرب " سنة 1983م , ثم توالت أعماله و إبداعاته ( و التي كتبها بالفرنسية ) مثل " ليون الأفريقي" , " سمرقند " , " القرن الأول بعد بياتريس " , " صخرة طانيوس " , " رحلة بالداسار " , " موانيء المشرق" , " بدايات " و غيرها .
أمين معلوف يقول مجيبًا على التساؤل حول مسألة كتابته باللغة الفرنسية :" أعترف بأنه أصبحت لديّ علاقة حميمة بالفرنسية. فخلال ثلاثين سنة في باريس وعلى رغم أنّ لدي الكثير من الأصدقاء اللبنانيين والعرب، إن اللغة التي استخدمها أكثر هي الفرنسية، خصوصاً في الحياة العامة. صارت الفرنسية هي اللغة التي أستطيع أن أعبّر عن أفكاري بها في شكل أسهل وتلقائي. ولكن عندما أقيم فترة في بلد عربيّ ولا سيما لبنان، لأنني في المغرب مثلاً أشعر بأنني ملزم باستخدام الفرنسية، عندما أقيم في لبنان، ترجع التعابير العربية اليّ تلقائياً. لكنني أعبّر بالفرنسية أفضل. فالكلمات التي يستخدمها المرء باستمرار في لغة معينة تأتيه بسرعة أكثر مما في لغة لا يستعملها كثيراً، وان كان يلمّ بها جيداً. اللغة التي يستخدمها الانسان يومياً تمدّه سريعاً وتلقائياً بالمفردات. صارت لدي علاقة حميمة جداً باللغة الفرنسية."
أعمال أمين معلوف تُرجِمَت لعدة لغات , منها العربية بالطبع , و قد نال جوائز عديدة مثل "جائزة الصداقة الفرنسية العربية _1986" , و "جائزة الجونكور " و هي أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية , عن روايته " صخرة طانيوس " عام 1993م. و الرئيس الفرنسي السابق " جاك شيراك " كان معتادًا الإستشهاد بعبارات من كتابات أمين معلوف .
أكثر الأفكار سيطرة على أدب أمين معلوف هي أفكار " السفر " و " البحث عن حقيقة ما " نلاحظ هذا بشدة في أعمال مثل " رحلة بالداسار " , " صخرة طانيوس " , " ليون الأفريقي " و " القرن الأول بعد بياتريس" , حيث دائمًا على البطل الرحيل و التنقل , إما هاربًا من حقيقة , أو ساعيًا إلى أخرى . و تبرز براعة الكاتب في أنك حين تقرأ عملا له , لا تشعر بأدنى تشابه أو تكرار بينه و بين أعماله الأخرى .
هذه نبذة عن أهم أعماله :-

-1- رحلة بالداسار :

في عام 1665م , بالداسار أمبرياتشي , شاب يتاجر بالتحف و الطرائف النادرة الأصلية , يعيش في مدينة جبيل اللبنانية حيث إستقر جد أكبر له أيام الحملات الصليبية , أما الآن فهم رعايا الإمبراطورية العثمانية .
تزداد الشائعات ضراوة عن الخطر القادم , العام 1666م , عام الوحش كما يسمونه , الذي يتوقع الكثيرون أنه عام يوم الدينونية و نهاية الخلائق .
ثمة شائعة أخري لا تقل أهمية و خطورة , عن ذلك الكتاب الذي وضعه أبو ماهر المازندراني , كتاب " الإسم المئة " الذي يتضمن إسم الله الأعظم , الإسم المئة , الإسم الذي من شأن إستخدامه رد خطر يوم الدينونة حتى تتراص الأرقام الثلاث 666 متجاورة بعد ألف عام .
بالداسار لا يؤمن بهذه الأمور , بل لا يؤمن بمعظم ما يؤمن به المؤمنون , فهو يشك في كل شيء, حتى ليتهمه الكثيرون بالكفر و البعد عن الإيمان الحق . كل ما يهمه هو تجارته و الحفاظ على إسم عائلته العريقة ذات الأصل الإيطالي الجنوي .
و بمصادفة لا تُصَدَق , يجد بالداسار نفسه في مواجهة شيء مما لا يؤمن به : كتاب الإسم المئة . إذ يعطيه إياه رجل عجوز قليل الشأن , ردًا لجميل لبالداسار عليه .
و بمصادفة لا تقل غرابة , يضيع منه الكتاب إذ يأخذه فارس نبيل من البلاط الفرنسي .
و لأن ثوابت بالداسار تزعزعت بتلك المفاجئات , يسهل على إبن أخته إقناعه بالسفر وراء الفارس لإستعادة الكتاب , الذي بدأ رفض بالداسار لأسطورته و الأساطير المرتبطة به , يتزلزل . و هنا تبدأ الرحلة , من بلاد الشام لبلاد الأناضول لبلاد أوروبا , حيث يلتقي الرجل من الأحداث و المفارقات و الأشخاص ما يهز عقله و يحرك الماء الراكد فيه , و يجعله يعيد النظر في معتقداته .
يقول بالداسار معلقًا على هذا في الرواية :
" رأيتُ الخوف , الخوف الفظيع , ينبع و يتعاظم و يستشري , رأيته يتغلغل في العقول , حتى عقول أفراد أسرتي , حتى في عقلي , رأيته يطيح بالمنطق , يسحقه , يهينه ثم يلتهمه "
من أشد المقَاطع قوة في الرواية ما جاء قرب نهايتها من تغير في فكرة بالداسار نحو الخالق عز و جل إذ يقول لنفسه :"أنَى لي , أنا بالداسار الآثم البائس , أن أكون أكثر لطفًا من الله ؟ و أنَى لقلب التاجر أن يكون أكثر كرمًا منقلبه عز وجل , و أكثر رحمة ؟ لدى مراجعة ما كتبت , تحت إندفاع ريشتي , لا يسعني إلا الشعور بالهلع . و لكن هلعي ليس مبررًا , فالرب الذي يستحق أن أجثو عند قدميه , لا يتمل خسةً أو نزقًا . إنه يسمو على كل هذه الأمور , و هو أكبر منها , فالله أكبر , الله أكبر , كما يردد المسلمون . "

-2- القرن الأول بعد بياتريس :
هوبير , عالم الحشرات الفرنسي , يكتشف بمساعدة حبيبته الصحفية كلارنس , مؤامرة دولية , تشترك فيها حكومات بأكملها , للعبث بنسبة الذكور للإناث من المواليد , لشعوب و بلدان أخرى . مؤامرة ليست حديثة التخطيط و التنفيذ , يصعب الإمساك بمدبريها , بل يصعب أصلا إثبات أن لها وجود !
في هذا الوقت تولد لهما بياتريس , التي يؤرخ بها هوبير أحداث روايته , و يسعى لكشف الحقيقة هو و نصفه الآخر كلارنس , من أجل إنقاذ مستقبل بياتريسهما , و بياتريس كل إنسان على سطح الأرض .
أكثر العبارات قوة و تلخيصًا لمضمون العمل هي عبارة قالها بطل الرواية :" بالرغم من مشيبي و زعمي التمتع بالعلم و الحكمة , أعترف بأني لا أدري أين توجد الحدود الفاصلة التي لا يجب تجاوزها . ربما في مجال الذرة و كذلك فيما يتعلق ببعض التعديلات التي يمكن إجرائها على دماغنا أو جيناتنا . أما ما يستحيل إكتشافه , إذا جاز لي القول , بصورة أكثر يقينًا , فهي تلك اللحظات التي تجازف فيها البشرية مجازفات قاتلة مع ذاتها و نزاهتها و هويتها و بقائها . إنها اللحظات التي يضع أكثر العلوم سموًا نفسه في خدمة أحقر الغايات ."

-3- موانيء المشرق : ( في طبعات أخرى " سلالم المشرق " )

قصة رجل من أسرة حكمت المشرق يومًا , جده الأكبر هو السلطان العثماني قبل الأخير , الذي إنتحر حسرة على ملكه الضائع , و فقدت إبنته الوحيدة عقلها حسرة على أباها .
يرق قلب طبيب عجوز للفتاة الجميلة الرقيقة المسكينة , فيتفرغ لعلاجها , و رغم عدم جدوى العلاج , يتزوجها , بعد أن تحول إشفاقه عليها لحب كبير . و ينجبان إبنًا وحيدًا .
يموت الأب تاركًا إبنه في السادسة عشر , يرعى أمه بحنان , لكنه مصاب بداء التمرد على كل شيء و أي شيء , و تربطه صداقة بمعلمه الأرمني , الذي يكبره بسبعة أعوام .
و مع إشتعال نيران الإضطرابات في تركيا , و سقوط الخلافة العثمانية , يهرب الصديقان و كل منهما يحمل معه أسرته , يذهبون جميعًا إلى جبل لبنان , حيث يتزوج سليل الأرستقراطية التركية أبنة صديقه الأرمني , التس تنجب له ثلاثة أبناء بالترتيب :عصيان , و هو بطل الرواية , إيفيت , الإبنة الوسطى , ثم سالم , الذي تموت الأم و هي تنجبه , و تكون هذه بداية خلل في عقله و أخلاقه .
تمر السنوات بالثلاثة , سالم كما هو في شراهته و إنطواءه و شعوره المرضي أنه مرفوض مضطهد , إيفيت التي تتزوج من مصري محترم , و بطلنا عصيان الذي يسافر إلى فرنسا لتلقي العلم في وقت كانت فيه نذر الحرب العالمية الثانية تلوح .
يسافر الفتى لدراسة الطب , و سرعان ما تهب الحرب من رقادها و تجتاح ألمانيا فرنسا , و بمفارقة غريبة يجد عصيان نفسه منضمًا للمقاومة الفرنسية , عن إقتناع .
أيام تمر بأخطارها و نجاحاته , يتعرف خلالها عصيان على كلارا , حبيبته الفرنسية اليهودية , تمر سنوات المقاومة , ثم تنتهي الحرب , و يعود الفتى للبنان فيجدهم يستقبلونه إستقبال الأبطال بعد أن بلغتهم أنباء عمله الفعال مع المقاومة ضد النازي , في وقت كان فيه لبنان يميل ليعانق الثقافة الفرانكوفونية .
لكن الحياة تحمل في رحمها مواليد السعادة و الشقاء , تلد السعادة متمثلة في قدوم حبيبته كلارا إلى لبنان و زواجه منها و ذهابهما للحياة في حيفا بفلسطين , ثم تعقب بالشقاء إذ تندلع حرب فلسطين , و لنا تخيل ما يمثله هذا من تعقيد بالنسبة لزوجين ينتمي كل منها لطرف من المتحاربين و يعيشان على أرض تلتهب بنار الحرب .

و يضطر الزوجان للإفتراق مؤقتًا , ثم يموت والد عصيان , و يصاب هذا الأخير بصدمة نفسية و عقلية مؤقتة , يستغلها أخاه الدنيء فيزج به في مصحة عقلية ليستولي على نصيبه من الميراث , و يستسلم عصيان لقدره , و لكن .. يعلم أن زوجته أنجبت إبنة ..
و هنا يبدأ عصيان في الخروج من ما كان فيه ..و تتتابع الأحداث المثيرة المليئة بالمفاجئات , في محاولة عصيان الخروج من سجنه و إستعادة نفسه و حياته .

المقطع الذي جذبني بشدة في هذه الرواية هو عندما كان عصيان يحكي قصته للراوي :
" و سألني : " بماذا تريد أن نستهل الحديث ؟ "
- " الأفضل أن نبدأ من البداية , من ولادتك ."
تمشى دقيقتين كاملتين بصمت ثم أجاب بسؤال :" أواثق أنت أن حياة الإنسان تبدأ يوم ولادته ؟ " "

هو مقطع بسيط لكنه عميق جدًا .
و للحديث بقية عن أعمال و أفكار و عالم المبدع أمين معلوف

تحياتي
وليد



2 comments:

إيما said...

سلام عليكم
دراسة(ترجمة بمعني أصح :)) رائعة بجد .. أمين معلوف لم أقرأ له من قبل لكن دراستك الممتعة عنه مغرية جدا بدخول مملكته وعالمه
بانتظار البقية ويا ريت لو تحدد دار النشر الصادرة عنها الرواية
تحياتي
:)

Ihab the 2nd said...

ما شاء الله يا وليد
اسلوب معبر و سلس و دراسة ثرية تستحق ان تنشر ورقيا ً
في انتظار البقية .. و بالمناسبة انا افتح هذه المدونة يوميا ً لعلي اجد لك جديد فيها
اخوك ايهاب