Monday, December 3, 2007



أكمل لكم نبذاتي المتواضعة عن أهم أعمال الأديب و الصحفي اللبناني الرائع , الأستاذ أمين معلوف.
-4- حدائق النور :
" ماني ". أعرج لكنه ثابت الخُطَى , ضئيل لكنه عملاق الحضور .
تبدأ القصة في بابل عندما يلتقي الفتى النبيل "باتيغ" برجل غريب, مهيب , يتعمد إهانة الآلهة التي طالما قدسها شعبه , فيواجهه الفتى بإستنكاره و رفضه, و ينتهي الحديث بإيمانه بأفكار الرجل الغريب , فيرحل معه إلى بستانه المنعزل حيث يعيش أتباعه المؤمنون بدعوته . يهجر نبله و آله و زوجته التي تحمل في داخلها إبنه المُنتَظَر.
في هذا البستان يعيشون جميعًا التقشف, لا يخالطون الناس إلا نادرًا , يكفرون الفنانين , يهجرون النساء , بل و كل أنثى و إن كانت نباتًا , يرتدون البياض و يؤمنون أنهم مُلاك الحقيقة العظمى .
تلد زوجة "باتيغ " , فيخرج من عزلته و ينتزع , بمعاونة رفاقه , "ماني", إبنه منها , ليعيش بينهم.
يكبر الطفل , و هو لا يعلم أن رفيقه الأكبر سنًا "باتيغ" هو أباه , تربط الطفل صداقة بالمراهق "مالكوس " المتمرد على حياة التقشف و الكآبة , تتلاقى أفكارهما الرافضة هذا الإنعزال و ترى فيه بُعدًا عن القرب الحقيقي من الخالق. يفران من البستان و يرحلان في بحث عن الحقيقة المنشودة .
ما الذي أصاب "ماني " ؟ إنه ينظر في صفحة الماء فيرى "توأمه النوراني " ذلك الآخر الذي يفتح عيناه على الحقائق العظمى للكون , و يبدأ به رحلة في العقول و الأماكن .
الترحال أصبح مصير " ماني " و معه صديقه و رفيقه عمره " مالكوس" , بين بابل و الهند , بين الشعوب الراضية بالحال , و الكهنة المستميتون على مكاناتهم , و الأكاسرة الباحثون عن المجد , بين هتافات المؤمنين و مؤامرات القصور , تدور الرحلة .
أحداث هذه الرواية بالذات , أصعب من أن يحتويها تلخيص , لهذا أطلب العُذر على التقصير في سردها .
من أهم مقاطع الرواية هذا الحوار العبقري :
" - هناك طريق وعر يسلكه الذين يصبون إلى الكمال , و طريق ممهد للبشر كافة .
-و لكن إذا كان الطريقان يؤديان إلى الخلاص , فما هي الإمتيازات التي أحصل عليها بإختياري الطريق الأصعب ؟
-إذا لفظت كلمة (إمتيازات ) , فمعنى ذلك أنك إخترت سلفًا "
-5- الحروب الصليبية كما رآها العرب :
يمكنك أن تعتبر هذا العمل رواية , و يمكنك أن تعتبره دراسة تاريخية , فالنتيجة واحدة : خروجك بكَم مهول من المعلومات و التفاصيل المبهرة , و إتساع معرفتك بتلك الفترة شديدة التأثير في ما تلاها من أحداث على مر القرون .
الكاتب يسرد في أربعة عشر فصلا أحداث الحروب الصليبية بين العرب و الغزاة الأوروبيون . هو أمر قام به عشرات الكُتاب , إلا أن أمين معلوف تميز عنهم بأن مزج موهبته كمؤلف بدقته كباحث , و بدت مهارته الشديدة في "خطف القاريء " و نقله للقرون الوسطَى , في أوجها , و تألق أسلوبه الرائع في جعل القاريء يتفاعل مع الوقائع و الأشخاص حتى أنه لا يقطع قراءته لسبب عابر , إلا بصعوبة شديدة جدًا . فهو يجعلك تبكي مع نور الدين محمود , و هو راكع يدعو الله النصر قائلا :" اللهم انصر الإسلام و لا تنصر محمود . من الكلب محمود لينصره الله ؟" , و ترتاع مع أسامة بن منقذ إذ يعلم بما جرى من مذابح في مدن العرب , و هتك للأعراض بل و أكل للموتى . ثم ينتابك الحذر و الترقب و أنت ترى صلاح الدين يستعد لغمد سيفه في الجسد الفاطمي المحتضر , ليقيم محله دولة أيوبية تتصدى للعدو الأوروبي الغازي , و يجتاحك الحماس و أنت تهتف للظاهر بيبرس البندقداري و هو يعود منتصرًا من جولاته لتأديب و الإستئصال المحتل من بلاد الشرق .
و من أهم ما ميّز هذا العمل , حماس أمين معلوف في الدفاع عن الحضارة العربية , متناسقًا مع حياده اللازم كباحث , أو كمؤلف إرتدى ثوب المؤرخ الأمين . فسَرَد ما لأسلافنا و ما عليهم , دون أن يترك حماسته تفقده الصدق أو يدع حياده يطغى على روح الراوي العربي بداخله .
-6- بدايات :
أمين رشدي بطرس طنوس معلوف
إسم خماسي عادي . كم مرة يردد كل منا إسمه الخماسي , و كم مرة فكر في البحث عن ما وراء هذا الإسم .
هو فعلها ! و بإحتراف يستحق شديد الإعجاب .
فببراعته المعتادة , و دقته المعهودة , فتح أمين معلوف ملف أسرته و غاص فيه حتى أعمق نقاطه , زار العجائز الذين لمسوا الماضي و عاشوه , تنقل بين المدن و الأماكن , عاين الأوراق و المذكرات و الصور , حتى يجيب على السؤال الأبدي :" من أنا و من أين أتيت ؟"
يركز الكاتب في سرده على أهم شخصية , بحق , في الأحداث , و هي جده " بطرس طنوس معلوف " , ذلك المعلم المثقف الحساس , الغريب الأطوار و الأفكار , صاحب الخطط المتمردة و الآراء الصادمة .
ففي فترة ساخنة من التاريخ تدور الوقائع الأشد تأثيرًا في الشرق : الضربات الخارجية و الداخلية الموجعة لتركيا , الرجل المريض , نشاط الحركات الماسونية لتغيير شكل الشرق , حركات الهجرة النشطة من الشام إلى الأمريكاتين , إشتعال الحرب العالمية الأولى . أحداث كان يمكن أن تمر على أسرة " معلوف " كأية أحداث تمر على أية أسرة , لولا أن أبرز أعضاء تلك الأسرة هو شاب قلق الذهن محب للتمرد , هو " بطرس معلوف " .
أمين معلوف يقدم لنا في هذا العمل تحفة فنية هي مزيج من أدب السيرة الذتية و أدب رواية الأجيال و الأدب الوثائقي, خرجت منه في صورة رائعة , لا أجد وصفًا لها سوى أنها " عاصفة من الأحاسيس و الأحداث المثيرة الجذابة " , إستحقت بها الرواية مكانة عالية في كلا من قائمة أعمال المؤلف , و قائمة أعمال رواية الأجيال .
من أشد المقاطع جمالا في العمل هذا المقطع الذي يعبر عن دافع الكاتب للقيام بهذا العمل :
"إذا كان النسيان مصير كل شيء , لماذا نبني , و لماذا بنى أسلافنا؟ لماذا نكتب , و لماذا كتبوا هم ؟ أجل , في هذه الحالة فما جدوى غرس الأشجار, و لِم الإنجاب ؟ ما فائدة النضال من أجل قضية , و الحديث عن التقدم , و التطور , و البشرية , و المستقبل ؟ فالإفراط في التعلق باللحظة المعاشة قد يحاصرنا بمحيط من الموت . و على العكس , فإعادة إحياء الزمان الغابر يوسع آفاق الحياة ."
-7- سمرقند :
للشرق و ما فيه سحر أصاب الكثيرين . هكذا يمكننا تفسير حماس المواطن الأمريكي الفرنسي بنجامين لوساج , للبحث حول نسخة نادرة من "رباعيات عُمَر الخيّام " .
قبل أن يقص علينا الراوي أحداث مغامرته التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر , يكِر بنا عبر القرون للقرن الحادي عشر الميلادي , لنصاحب الشاعر و الفلكي و الطبيب الفارسي "عمر الخيام " رحلته في الشعر و العلم و السياسة . بين سمرقند و أصفهان و نيسابور , نجلس مع الخيام في حضرة الخان العظيم , و نتعرف معه على حسن الصبّاح مؤسس حركة "الحشاشين " , و نشاركه مناقشاته مه " نظام الملك " وزير ملك السلاجقة , و نحب معه " هاجر " الشاعرة التي أدمنت السياسة و السلطة و شئون القصور , ثم نفر معه من المتآمرين و الحشاشين , حتى نبكيه و هو يلفظ النفس الأخير بعد 84 عامًا حافلة .
بعد هذا ننتقل مع الراوي , بين لندن و فارس و باريس و أنابوليس و أسطنبول , نحاور معه جمال الدين الأفغاني و نرمق معه بتشكك ميرزا رضا , و نهرب معه من إتهام ظالم بالتآمر على حياة شاه فارس .
هذه ليست مجرد مغامرة مثيرة , بل هي , ككل أعمال أمين معلوف , رحلة بحث عن معنًا أو مبدأ أو فكرة , أو حقيقة مخفية , تستحق فعلا عناء السفر . و في هذه الرواية بالذات , نبحث مع الكاتب عن معنى من المعاني النبيلة , معنى أن يكون الإنسان " صاحب فكر " في عالم يعاني فيه " أصحاب الأفكار " .
من أجمل ما قيل في هذه الرائعة , قول عمر الخيام في الحَسَن بن الصبّاح :" أنا متعبد للحياة و هو عابد للموت . أنا أهتف :" إن كنت لا تعرف الحب فما يجديك شروق الشمس و غروبها؟" و حسن يطالب الناس بتجاهل الحب و الموسيقى و الشعر و الخمر و الشمس . إنه يحتقر أجمل ما في "الخليقة" و يجرؤ على التلفظ بإسم "الخالق". "
--------
هذه نبذات متواضعة عن أهم أعمال المبدع أمين معلوف , عن عالمه و أفكاره و سحره البارع .
عن رجل , يعيش حياته يُلقِي أحجار الأسئلة في بِركة الأفكار , و يغوص في دوامات الناتجة عن إرتطام الحجر بسطح الماء .
تحياتي
وليد

No comments: